«وصية عم عبده» قصة قصيرة للكاتب عمرو صلاح الغندقلي

الكاتب عمرو صلاح الغندقلي
الكاتب عمرو صلاح الغندقلي

وصلني اليوم كشكول قديم ، وجدته ملقى على مكتبي، ناديت زوجتي وسألت عنه ، أخبرتني أن الحاجة نعيمة، التي كانت جارتنا في شبرا ، قد أتت به لي، وهي تقول أن  المرحوم عم عبده أوصى بها أن تكون لي من بعد وفاته، فاكره؟ تسألني

أجيب: طبعاً ، ده عم عبده النجار اللي كان شغال في السكة الحديد .

آمنت زوجتي على كلامي، ثم أردفت: أيوه، هو الله يرحمه ، جات مراته وسابت الكشكول ده وقالت إنه مليان قصص وهى عارفه من زمان أنك غاوي تقرأ فقالت أنت أولى به ، أصل مفيش حد بيقرأ قصص لا هى ولا الأولاد ،دا حتى الأحفاد مش بتقرأ ، قالت وأنا بزوركم اخده معايا .

قلت لها وأنا أتفحص الكشكول : أيوه فعلاً ده في قصص قصيرة وواضح أن محدش قرأ منها حاجة ، عموما كتر خيرها ، وإن شاء الله اسهر بالليل عليها ، الله يرحمك يا عم عبده ، كان راجل طيب وفى حاله.

خرجت الزوجة وتركت الكشكول في يد زوجها، وهو أخذ يقلب بين صفحاته حتى وجد ( وصيتي لأولادي وزوجتي)

استوقفتني هذه الوصية وهممت بالجلوس على المكتب وأخذت أقرأ لكي أعرف هل هي حقا وصية عم عبده لأولاده وزوجته حقا ؟ أم هي عنوان لقصة من قصصه ؟

قرأت :

هذه وصيتي لأولادي وزوجتي، أعلم أن من يقرأ هذه الوصية ستكون روحي ساكنة في ملكوت السماوات عند بارئها ، وأعرف أيضاً أنه لن تقع في يد أحد أبنائي أو زوجتي أو في يد أحد أحفادي لعلمي بهم أنهم لا يحبون القراءة بشكل عام وقراءة ما كتبته بشكل خاص ، هكذا هي الدنيا ، دائما زمار الحي لا يُطرب ، ولا يُكرم ولىّ بين أهله .

هذه وصيتي إليكم جميعاً ، انتم تعلمون أنى حصلت على دبلوم صناعي قسم نجارة واشتغلت في السكة الحديد نجار أقوم بإصلاح الفلنكات التي إذا فسدت فسد القضبان ، مما يشكل هذا الفساد في سير القطار ، وقد عملت بكل إخلاص في هذه الوظيفة وحرصت على ألا أطعمكم إلا من حلال وارتضيت بما قسمه الله لي من رزق وكنت أعود بعد الوظيفة إلى البيت ، أمكث فيه عند المكتبة التي أصبحت عالمي الذي أغوص فيه لالتقاط ما ندر من لآلئ ومرجان ، وأجعلها في خزينتي لعل تجد من يحملها من بعدي، لا أقوم من مقامي إلا على صوت زوجتي الغالية حين تخبرني بأن الغداء قد حان ، أو طارق يطرق الباب من الجيران ، يعلم أنى أعمل نجارا ويريد أن يصلح باب أو شباك أو حتى طبلية لا مانع ، أقول هذا رزق ساقه الله لي وأخذ عدتي وأذهب معه ، غير ذلك لا أقوم لشئ ولا يعنيني شيئا.

وصيتي لكم جميعاً ، عليكم بالقراءة بنهم وشغف وحب للمعرفة، إن الأمم التي تقرأ وتحرص على ذلك وتجعل من القراءة بشكل دائم تسابق الأمم ، إن أحد أهم مقومات بناء الحضارة الإنسانية بلا شك هي القراءة.

قد تعلمت من الكتاب حب المعرفة وأن الكتاب خير صديق يعطيك ولا يأخذ منك، وحين تحتاجه في أي وقت لا يبخل عليك بشئ ، يعطيك ما يجعلك ترتقي ويتسع الأفق عندك والإدراك ، فترى ما لم يره غيرك وتعي ما لم يعيه غيرك .

أحببت لو أن أحد أبنائي أو أحفادي يهتم بالقراءة ، ويكون بين يديه الآن هذا الكشكول الذي وضعت فيه كنزي!

نعم وضعت كل ما جمعت من أفكار وصغتها فى قصص حتى تكون سهلة على من يقرأها ، لكن للأسف حين ذهبت لأكثر من دار نشر وعرضت عليهم نشر هذه القصص ، رفضوا وجعلوا مثل هذا الأمر صعب المنال وأن الأمر متاح لمن كان له اسم كبير في عالم الكتابة ، أما غير ذلك فلا.

ذهبت أحمل خيبتي وكشكولي وعزمت على أن لا أعود لمثل هذا ، وتركت ما أحب أن اكتبه بين دفتي هذا الكشكول ، وعزمت على أن أكتب لنفسي وأضع في هذا الكشكول قصص بها عبر ، وأردت أن أكافئ من يقع في يده الكشكول بأن يتطلع على السر .

السر الموضوع في كل كتاب عندي في المكتبة التي أعرف أنه لن يقترب منها أحد من أبنائي أو أحفادي لعلمي بهم أنهم لا يحبون الكتاب ، فقد قررت أن أضع في كعب كل كتب ما اشتريته من ذهب وفضة ، كنت إذا صنعت لأحدهم مكتبة أو سرير أو دولاب اشترى جرام ذهب واضعه في كعب الكتاب ، وحين يكون الأجر لا يكفى لشراء جرام ذهب كنت اشترى فضة، أو حجر كريم ، وكنت حريص على هذا الأمر طيلة حياتي وقد أحببت أن يكون هذا الكنز الذي يحويه كل كتاب هدية لمن يقع في يده الكشكول ، وقد اشترط لمن سيحصل على هذا السر ، ألا يخبر أحد من أهلي، واعلم أن هذا الكشكول حين يقع في يد من يستحق ، سوف ترسل زوجتي إن كانت على قيد الحياة باقي الكتب كما أوصيت بذلك لمن يأخذ الكشكول ، وحين تكون الكتب والكشكول في يدك اعلم أنك حصلت على خلاصة عمري من قصص وذهب وفضة وأحجار كريمة ، كنت أتمنى أن تقع في يد زوجتي الكريمة غير أنها كانت ومازلت تحب التلفزيون والدراما والحكي، ولم تبخل عليا حين كنت أمكث في مكتبتي بالساعات بكوب من الشاي المنعنع الذي أحبه كل ساعة، وكانت تنكرني وكتبي وكتابتي غير مكترثة بما أفعل ولا يعنيها .

لكن مثلها مثل الأبناء والأحفاد وهذا الأمر آلمني كثيراً ولكن ما بيد حيلة.

أيها الصديق الوفي لقد زرت بيتك كثيرا وكنا نتناقش وأتعلم منك جراء هذا النقاش الذي أنار لي الطريق وقد جاء الوقت لكي تساعدني في تنفيذ وصيتي، ربما يمر يوما أو يومين على الأكثر لكي تحضر لك زوجتي الكتب ، لذا إذا جاءت إليك فخذها واستخرج ما بها من الذهب والفضة وقم ببيع كنزي الصغير وقم بشراء مكان يصلح لمكتبة بالمنطقة سمها ما شئت واعمل بها مكان للقراء بلا مقابل واجعل من يستقبل أعمال الكتاب من الشباب والكبار واحرص على مراجعتها وطبع  نشر ما يستحق النشر واجعل مسابقة ترعاها دار النشر هذه لأحسن كتاب وأعطي من يستحق الجائزة وساهم بقدر ما تستطيع من جهد ووقت في نشر الثقافة والحث عليها ، هذه وصيتي إليك.

انتهيت من قراءة تلك الوصية وإذ بجرس الباب يضرب فذهبت نحو الباب وجدت شاب يحمل صندوق به كتب كثيرة وقال: السلام عليكم ، أنا أحمد حفيد الحج عبده النجار وهذه الكتب أرسلتها إليك جدتي كما وصاها جدي وهناك كراتين أخرى أرسلها إليك.

تعجبت ، ثم رحبت ، ثم أخذت الكتب إلى مكتبي، وقمت بالاطلاع عليها ووجدت بكل كتاب ذهب .

وعزمت على أعمل بالوصية وأنشأت مكتبة ودار نشر عم عبده.